منتديات مدرسة الاميرة تغريد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى عام
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 القارب

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أمير الحب
Admin
أمير الحب


عدد المساهمات : 66
تاريخ التسجيل : 30/03/2009
العمر : 37

القارب Empty
مُساهمةموضوع: القارب   القارب I_icon_minitimeالإثنين مارس 30, 2009 5:20 pm

القارب

قارب صغير توقّفت عليه حياتي وتعلّق به وجودي.
لم يكن يختلف عن بقية القوارب في شيء مميز. مجرد قارب صغير في حجمه، أزرق في لونه. قارب تجديف، بلا مجدافين، يرسو في خليج الشاطئ الرملي، ويحميه سيفٌ صخري من أمواج البحر الهائجة حيناً الهادئة حيناً آخر. ومع ذلك، فهو يتمايل تمايلاً متواصلاً بفعل الأمواج التي تنساب تحته وحوله، ولكنه لا يغادر مكانه بفضل المرساة الثقيلة التي تشدّه إلى تلك البقعة. وقد يصغر ويكبر في النظر بفعل المدّ والجزر. ففي المدّ تغمر معظمَه المياه حتى لا يبدو منه إلا حافته، وفي الجزر تنحسر عنه المياه حتى يظهر هيكله كاملاً تقريباً.
لا اذكر متى رأيت ذلك القارب أول مرة هناك. فمنذ أن سكنتُ في هذه الدارة المطلّة على هذا الشاطئ المنعزل، وهو في تلك البقعة من الخليج وحيداً. لفت نظري أوّل مرّة عندما كنت أشاهد غروب الشمس في لحظاته الأخيرة وقرصها يغرق رويداً رويداً في أعماق البحر عند خط الأفق البعيد ثم يتلاشى تماماً ما عدا بعض البقع الحمراء المتناثرة التي تلطّخ صفحة السماء الصافية الزرقة. وكان ذلك القارب يقع بيني وبين الشمس المودِّعة ، وتنعكس عليه تحولات الضوء فيبدو جانبه المواجه لي أكثر قتامة ويبرز شيء من اللون الأبيض الذي طُلي به باطنه، فيتناغم مع بياض الأمواج عند اصطدامها بالسيف الصخري أو عند معانقتها الشاطئ لترتمي في أحضانه.
ظننته أول الأمر قارب صيد، بيد أن ذلك الشاطئ يخلو من الصيادين، ولم أرَ إنساناً يقترب منه، كما أنه لم يبرح مكانه، على ما أذكر. وقلت في نفسي لعله قارب للنزهة أرساه أحدهم هناك ليتنزه به في أيام العطل. غير أنني، على كثرة جلوسي في شرفة الدارة المطلّة على البحر، لم أشاهد شخصاً ركب ذلك القارب أو اقترب منه.
وبمرور الوقت، اعتدت على رؤية القارب كما اعتدت على رؤية صخور الشاطئ ورماله فلم يعُد تشكّل عائقاً لامتداد بصري، أو كما اعتدت على سماع هدير الأمواج فلم تعُد تأسر سمعي. وراحت زرقة القارب تتماهى في زرقة البحر وتتبدّل معها انغلاقاً وانفتاحاً حتى أمسى مثل موجة من موجات البحر وصارت خطوطه مجرد قطرات متناهية في الصغر شديدة الالتصاق ببعضها مثل قطرات ماء البحر.
وشيئا فشيئا لم أعُد ألحظ وجود القارب ولم أعُد أعيره اهتماماً، كأن لم يكن موجوداً بالمرّة. ولكن حدث أمر ذات يوم أعاد اهتمامي بالقارب، واكتسب وجوده معنى خاصاً بالنسبة إليّ، بحيث إنني كنتُ أسرع حال استيقاظي في الصباح إلى شرفة الدارة لأتأكد من وجوده في مكانه. وقبل آن آوي إلى فراشي في منتصف الليل كنتُ أعود إلى الشرفة لألقي نظرة أخيرة عليه. وفي أثناء النهار، كنتُ أطيل النظر إليه وأتوهم أحياناً أنه يتجاوب مع أفكاري أو يستجيب لنظراتي، وكأن حركاته الأفقية طوراً العمودية طوراً آخر إشارات رمزية ذات دلالات مفهومة.
وأُلقي في روعي أن ثمة صلات روحية بيني وبين القارب، على الرغم من أن عقلي كان لا يجد منطقاً مقبولاً في تلك الأوهام. فكيف يمكن أن تنشأ علاقة روحية بين إنسان وجماد؟ إنه مجرد مجموعة من الألواح الخشبية الجامدة التي انقطعت صلتها بالأشجار منذ أمد بعيد، والتي تشدّها ببعضها مسامير فولاذية صلبة. وما تمايلُ القارب إلا حركة عارضة بفعل الأمواج وليست حركة ذاتية بفعل إرادة عاقلة. وبالرغم من تفكيري المنطقي ذاك، فإن إحساساً غريباً سيطر على نفسي مفاده أن وجودي متوقف على وجود ذلك القارب في تلك البقعة.
لا أعرف كيف تنشأ الأحاسيس، ولا أعرف مدى صدقها أو كذبها، ولكن ذلك الإحساس الذي أصابني كائن فعلا، تترجمه كلماتي التي أنطقها بصوت مسموع في وحدتي، فكثيرا ما كنتُ أقول: إن وجودي متوقف على ذلك القارب. ثم فكّرت: ولكن وجوده، هو الآخر، يتوقف عليّ، فلو لم أشاهده أنا في هذا الشاطئ المنعزل الخالي من البشر لما كان موجوداً، وكأني بذلك أردد تلك القضية المنطقية السخيفة التي يدرسها طلاب الفلسفة عن تلك الشجرة التي سقطت في الغابة دون أن يوجد أحد بالقرب منها، فهل أحدثت دويّاً أم لا.
لقد لفت انتباهي للقارب أول مرة صديقي الرسام خالد أو بالأحرى سلوكه الغريب. لقد اقترح خالد قبل سنتين أن يشاركني السكن في هذه الدارة نزولاً عند نصيحة طبيبه الذي نصحه بأن هواء البحر النقي سيقلّل من أزمات الربو الذي كان يعانيه، وبأن الفضاء الواسع سيتيح له التمشي واستنشاق الهواء ما يخفف من مرض انسداد الشرايين في قلبه. وتلقيت اقتراحه بالقبول، إذ فكّرت أن سكنه معي في الدارة سيخفف من حدّة وحدتي، إضافة إلى ما يربط بيننا من أواصر المودة منذ سنوات طويلة.
كان خالد قليل الكلام، يمضي معظم وقته في شرفة الدارة وهو يطيل التأمل أو النظر إلى البحر أو يطالع في كتاب أو يحرك فرشاته بضربات متأنية صغيرة على قطعة قماش مثبتة على حامل الرسم. وكانت تغلب على رسومه مناظر البحر والشاطئ والأمواج والغيوم وكانت معظم ألوانها داكنة وتخلو مناظره من الشمس. قال لي ذات يوم:
ـ سأرسم ذلك القارب قبل أن يرحل.
قلتُ له:
ـ إنه دائما هناك، وأنا أتطلع لرؤية رسمك له.
وراحت الأيام والأسابيع والشهور تنفلت دون أن يرسم خالد ذلك القارب.

كان خالد كثيراً ما يجلس في الشرفة ويطيل التأمل أكثر مما يرسم أو يقرأ. ظننته أول الأمر يتأمل البحر أو يسرح نظره في أمواجه أو يتطلع إلى غروب الشمس أو يتابع حركة الغيوم في السماء، ولكن بدا لي فيما بعد كما لو كان يحدّق في القارب كأن عينيه شدتا إليه بأسلاك غير مرئية، أو كما لو كان يفكّر في أمرّ يقلقه ويملأ نفسه بالخوف. وقلتُ في نفسي لعلّه يتوجس الموت بسبب عمره المتقدّم وحالته الصحية الصعبة. وسخرت من تخوفاته في نفسي، لأنني أعتقد تماماً بالقضاء والقدر وأن الموت لا يرتبط بحالة الإنسان الصحية، فكم من شاب وافته المنية وهو في كامل قواه الجسدية!
لم يحدّثني خالد عن القارب كثيراً، ما عدا إشارته إلى نيته في رسمه، لذا لم أسأله عن سبب تحديقه فيه، فقد أكون واهماً. إضافة إلى أنه كان قليل الكلام كثير التفكير، وكنتُ أخشى أن أقطع عليه سلسلة أفكاره.
وذات يوم انتهى خالد من رسم منظر تبدو فيه صخور الخليج الذي يرسو فيه القارب ساعة اصطدام الأمواج بها، فتتطاير قطراتها وتتحول إلى ستارة هرمية من حبيبات بيضاء، ولكن القارب لم يظهر في تلك اللوحة. وعندما فرغ من وضع اللمسات الأخيرة على تلك اللوحة، علقها على الجدار وجرني برفق إلى الخلف قليلا، وهو يتأمل اللوحة ويقول لي:
ـ ما رأيك فيها؟
قلتُ بنبرة حاولت أن تبدو مخلصة وطبيعية:
ـ رائعة حقاً، ولكن يعوزها القارب.
فصمت ولم يعلق بشيء فلم أتابع الحديث في الموضوع.

وذات يوم أتمّ خالد لوحة تبدو فيها غيوم سوداء كثيفة متتابعة تتحرك بسرعة نحو الخليج كما لو كانت طائرات حربية مخيفة تنقضّ واحدة تلو الأخرى على السيف الصخري القريب من الشاطئ، تماما على البقعة التي يرسو فيها ذلك القارب. وصُمم المنظور بحيث يبدو وكأن الناظر إلى اللوحة يقبع تحت ذلك الهجوم القادم من السماء. ولكن القارب نفسه لم يظهر في تلك اللوحة. وضع خالد اللوحة على الطاولة متكئة على الجدار، وقال:
ـ هل تبدو حركة المنظور واضحة؟
ـ حركة الغيوم والأمواج واضحة تماما كما لو كان الناظر في عين العاصفة. ولكنك نسيت القارب.
تردد قليلا قبل أن يقول:
ـ سأرسمه ذات يوم.

كان خالد يشعر، بين آونة وأخرى، ببوادر أزمة قلبية: ألم في الصدر سرعان ما ينتشر إلى الفك والكتف اليسرى ، ارتفاع في خفقان القلب، ، صعوبة في التنفس، فيسرع إلى تناول قرص من دوائه، والاستلقاء على ظهره في الأريكة الموجودة في الشرفة، وأُسرعُ أنا إلى الاتصال هاتفياً بطبيبه ليوافينا، ثم آخذ بتدليك صدره بلطف.
مررتُ ذات يوم بالقرب منه، وهو مستلقٍ على الأريكة في الشرفة ، وكان يحدّق في البحر ولم يحس بوجودي بالقرب منه، فسمعته يقول كمن يخاطب أحداً أو يناجي نفسه: " سأرحل يوم ترحل، أو ترحل يوم أرحل! ". ظننتُ، بادئ الأمر، أنه يخاطبني، ولكنه حينما أردف قائلاً: " ولا فائدة من رسمك. سيرحل الأصل وتبقى الصورة"، تبين لي أنه كان يخاطب القارب.
انسحبت بهدوء دون أن يشعر، وقلت في نفسي لا بدّ أنه يحسّ باقتراب الموت، ما يجعله فريسة سهلة للوساوس، فيعلّق حياته على وجود القارب في الخليج. وذكرني هذا الأمر بقصة الكاتب الأمريكي أوهنري عن تلك الفتاة الفقيرة التي غدر بها حبيبها فمرضت حتى كادت تشرف على الموت. ولم تكن تملك حتى ثمن الدواء فتبرع جارها الرسام العجوز بشراء الدواء لها. وكانت وهي في سريرها تراقب رياح الخريف تعبث بوريقات غصن شجرة في الشارع يستند إلى شباك غرفتها، فتُسقطها وريقة وريقة، حتى لم تبقَ في الغصن سوى وريقة واحدة ترتاح على زجاج شباكها، فكانت الفتاة تردد وهي في هلوسة الحمى أن أيام حياتها تتساقط كما تتساقط تلك الوريقات من الغصن، وأنها ستفارق الحياة عندما تسقط الوريقة الأخيرة. ولكنها في الصباح فتحت عينيها فرأت الشمس مشرقة تتسرب إليها دافئة من الشباك، والوريقة باقية في موضعها وقد ازدادت اخضراراً ورونقاً، وتفتّحت إلى جانبها براعم صغيرة، فعاودها الأمل في الحياة. ولم تعلم أن جارها الرسام العجوز قد أمضى شطراً من الليل تحت المطر وهو يرسم الوريقة والبراعم على زجاج شباكها، وأنه سقط في الفجر ميتاً متأثراً بالبرد.
وفكرتُ أنا الآخر في وسيلة تضمن بقاء القارب في الخليج ليتبرعم الأمل في نفس صديقي خالد، فدوام النبض في القلب رهين بنبض الأمل في النفس. لم أعرف ما أفعل لأضمن بقاء القارب راسياً في الخليج. فالقارب هناك ولا أعرف له صاحباً، كما أني لا أجيد الرقم على الماء.
مرّت شهور على هذا الوضع. وذات صباح تأخّر خالد في النهوض من فراشه، فقد أكملتُ إعداد الفطور ولم يلتحق بي كعادته. فوضعت الصينية على الطاولة في الشرفة وذهبت إلى غرفته. كان في فراشه ساكناً. لم أسمع تنفسه. اقتربت منه، وضعت يدي على معصمه. كان بارداً بصورة مريعة. لا بد أنه فارق الحياة على إثر أزمة قلبية داهمته في الليل، دون أن أتمكن من نجدته أو حتى مساندته في اللحظات الأخيرة. كان يتحاشى مضايقة الآخرين وقد غادر هذه الدنيا دون أن يزعج أحداً.
ووجدتني انتزع نفسي من براثن الحزن والدهشة لأسرع بصورة تلقائية إلى الشرفة وألقي نظرة على الخليج، فلم أرَ القارب هناك. لقد رحل القارب. أذهلني اختفاء القارب، وأدخل شيئا من التوجس في قلبي.
وفي المساء عندما عدت من مراسيم الدفن في المقبرة، كان قارب هناك في مكانه المعتاد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
القارب
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات مدرسة الاميرة تغريد :: منتديات عامة :: اقلام حرة-
انتقل الى: