منذ وُجِدَ الإنسانُ على ظهر الأرض وهو يهتدي –بإلهام ربه– إلى أنواع من التطبيب تتفق مع مستواه العقلي وتطوره الإنساني، وكان ذلك النوع من الطب يُعرف بالطب (البدائي) انسجامًا مع المستوى الحضاري للإنسان؛ ولذلك نجد ابن خلدون (ت 808 هـ) يذكر أن:" .. للبادية من أهل العمران طبًا يبنونه في أغلب الأمر على تجربة قاصرة ، ويتداولونه متوارثًا عن مشايخ الحي، وربما صحَّ منه شيء ، ولكنه ليس على قانون طبيعي "..
الطب عند العرب:
لا شك أن المفهوم المتبادر إلى الذهن من الكلمة (عند العرب في الجاهلية) هو الطب البدائي، الذي يعتمد التجربة والرُّقى، ويتناسب مع مستواهم الحضاري، ابن خلدون كما ذكر ابن خلدون في مقالته السابقة، وكان التطبيب في الجاهلية ذا شعبتين: شعبة تقوم في جوهرها على الكي بالنار، واستئصال الأطراف الفاسدة، والتداوي بشرب العسل، ومنقوع بعض الأعشاب النباتية، واللجوء إلى التمائم والتعاويذ على يد الكُهَّانِ والعرافين، وفي ذلك يقول الشاعر الجاهلي عروة بن خزام عن رباح بن عجلة عراف اليمامة:
جعلت لعرَّاف اليمامة حكمَــهُ .:. وعــرَّاف نجدٍ إن هما شـفيانِي
ِفقالا: نعـمْ نشفي من الداء كله .:. وقــامـا مع العـود يبتـدرانِ
(تطور الفكر العلمي عند المسلمين -محمد الصادق- ص173):
وما يزال هذا اللون شائعا في جميع عالمنا العربي.
كما حرَّم الإسلام التداوي بالمحرمات كالخمر والحيوانات التي لا يبيح الإسلام تناولها, ولقد تكلم العلماء في عِلَّةِ تحريم الإسلام لذلك؛ فقال ابن القيم في زاد المعاد
المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلا وشرعا؛ أما الشرع فما ذُكِرَ من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد روى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داءٍ دواءً فتداووا ولا تداووا بالمحرم ].
وذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم, وفي السنن: عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث, وفي صحيح مسلم عن طارق بن سويد الجعفي أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه أوكره أن يصنعها فقال : إنما أصنعها للدواء فقال: [ إنه ليس بدواء ولكنه داء ].
وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الخمر يُجعَل في الدواء فقال:[إنها داء وليست بالدواء] رواه أبو داود والترمذي,
وفي صحيح مسلم عن طارق بن سويد الحضرمي قال: [ قلت : يا رسول الله ! إن بأرضنا أعنابا نعتصرها فنشرب منها؛ قال: لا. فراجعته قلت: إنا نستشفي للمريض قال: إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء].ويُذْكَر عنه صَلَّى اللهُ عليه وسلم أنه قال: [ من تداوى بالخمر فلا شفاه الله].
وفي سنن النسائي أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عن قتلها.
ويكمل ابن القيم: وأما العقل فهو أن الله سبحانه إنما حرمه لخبثه فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيبا عقوبة لها كما حرمه على بني إسرائيل بقوله: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أُحِلَّتْ لهم } [ النساء : 160 ] وإنما حرَّم على هذه الأمة ما حرَّم لخبثه, وتحريمه له حميةً لهم وصيانة عن تناوله؛ فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل فإنه وإن أَثَّرَ في إزالتها لكنه يعقب سقما أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب,
وأيضا فإن تحريمه يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق, وفي اتخاذه دواء حَضٌّ على الترغيب فيه وملابسته وهذا ضد مقصود الشارع, وأيضا فإنه داءٌ كما نَصَّ عليه صاحب الشريعة فلا يجوز أن يتخذ دواء.
وأيضا فإنه يكسب الطبيعة والروح صفة الخبث لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالا بيِّنًا فإذا كانت كيفيته خبيثة اكتسبت الطبيعة منه خبثا فكيف إذا كان خبيثا في ذاته؟!! ولهذا حَرَّم الله سبحانه على عباده الأغذية والأشربة والملابس الخبيثة لما تكسب النفس من هيئة الخبث وصفته).
زاد المعاد [ جزء 4 - صفحة 141 ] بتصرف.
كما أن هناك شعبة تتجه في علاجها إلى الحمية، وعلى إسداء النصيحة وليدة الخبرة، مثل قولهم: (المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء)، و(القديد مهلك لآكِلِه).
(تطور الفكر العلمي عند المسلمين - محمد الصادق - ص173):
ولما جـاء الإسلام كان للعرب في الجاهلية مثل هذا الطب، فَحَثَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على التداوي فقال فيما رواه أبو داود عن أسامة بن شريك (رضي الله عنه): "... تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ)..